كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسادسها: السكينة: {هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة في قُلُوبِ المؤمنين} [الفتح: 4] فلما رغب موسى عليه السلام في طلب السكينة قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} والنكتة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خائفًا فلما نزلت السكينة عليه قال: لا تحزن فلما نزلت سكينة الإيمان فرجوا أن يسمعوا خطاب: {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} [فصلت: 30] وأيضًا لما نزلت السكينة صار من الخلفاء: {وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض} [النور: 55] أي أن يصيروا خلفاء الله في أرضه.
وسابعها: المحبة والزينة: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزِينَه فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] والنكتة أن من ألقى حبة في أرض فإنه لا يفسدها ولا يحرقها فهو سبحانه وتعالى ألقى حبة المحبة في أرض القلب فكيف يحرقها.
وثامنها: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 63] والنكتة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ألف بين قلوب أصحابه ثم إنه ما تركهم في غيبة ولا حضور: سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فالرحيم كيف يتركهم.
وتاسعها: الطمأنينة: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] وموسى طلب الطمأنينة فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} والنكتة أن حاجة العبد لا نهاية لها فلهذا لو أعطى كل ما في العالم من الأجسام فإنه لا يكفيه لأن حاجته غير متناهية والأجسام متناهية والمتناهي لا يصير مقابلًا لغير المتناهي بل الذي يكفي في الحاجة الغير المتناهية الكمال الذي لا نهاية له وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى فلهذا قال: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} ولما عرفت حقيقة شرح الصدر للمؤمنين فاعرف صفات قلوب الكافرين لوجوه: أحدها: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
وثانيها: ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم.
وثالثها: في قلوبهم مرض.
ورابعها: جعلنا قلوبهم قاسية.
وخامسها: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه.
وسادسها: ختم الله على قلوبهم.
وسابعها: أم على قلوب أقفالها.
وثامنها: كلا بل ران على قلوبهم.
وتاسعها: أولئك الذين طبع الله على قلوبهم.
إلهنا وسيدنا بفضلك وإحسانك أغلق هذه الأبواب التسعة من خذلانك عنا واجبرنا بإحسانك وافتح لنا تلك الأبواب التسعة من إحسانك بفضلك ورحمتك إنك على ما تشاء قدير.
الفصل الخامس: في حقيقة شرح الصدر، ذكر العلماء فيه وجهين: الأول: أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، وأما الرهبة فهي أن يكون خائفًا من الأعداء والمنازعين فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته، فيصير كالذباب والبق والبعوض لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها، فيصير الكل عنده كالعدم وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى، فإن القلب في المثال كينبوع من الماء والقوة البشرية لضعفها كالينبوع الصغير فإذا فرقت ماء العين الواحدة على الجداول الكثيرة ضعفت الكل فأما إذا انصب الكل في موضع واحد قوي فسأل موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره بأن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها حتى يصير قلبه نفورًا عنها فإذا حصلت النفرة توجه إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات بالكلية.
الثاني: أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة منها ضبط الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى ومنها إصلاح العالم الجسداني فكأنه صار مكلفًا بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر، ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير ممنوعًا عن السماع والمشتغل بالسماع يصير ممنوعًا عن الإبصار والخيال، فهذه القوى متجاذبة متنازعة وأن موسى عليه السلام كان محتاجًا إلى الكل ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالًا من القوة لتكون قوته وافية بضبط العالمين فهذا هو المراد من شرح الصدر.
وذكر العلماء لهذا المعنى أمثلة.
المثال الأول: اعلم أن البدن بالكلية كالمملكة والصدر كالقلعة والفؤاد كالقصر والقلب كالتخت والروح كالملك والعقل كالوزير والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة والغضب كالاسفهسالار الذي يشتغل بالضرب والتأديب أبدًا والحواس كالجواسيس وسائر القوى كالخدم والعملة والصناع ثم إن الشيطان خصم لهذه البلدة ولهذه القلعة ولهذا الملك فالشيطان هو الملك والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده فأول ما أخرج الروح وزيره وهو العقل فكذا الشيطان أخرج في مقابلته الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشيطان ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الشيطان في مقابلة الفطنة الشهوة، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوي الفطنة بالفكرة فتقف على الحاضر والغائب من المعائب على ما قال عليه السلام: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا والحلم يوقف العقل على قبح الدنيا فأخرج الشيطان في مقابلته العجلة والسرعة فلهذا قال عليه السلام: «ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه» ولهذا خلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصنفين، وقلبك وصدرك هو القلعة.
ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقًا وهو الزهد في الدنيا وعدم الرغبة فيها وله سور وهو الرغبة الآخرة ومحبة الله تعالى فإن كان الخندق عظيمًا والسور قويًا عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله: {رَبّ اشرح لِي صَدْرِي}.
المثال الثاني: اعلم أن معدن النور هو القلب واشتغال الإنسان بالزوجة والولد والرغبة في مصاحبة الناس والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى: {كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر.
الفصل السادس: في الصدر اعلم أنه يجيء والمراد منه القلب: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} [الزمر: 22]، {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}، {وَحُصّلَ مَا فِي الصدور} [العاديات: 10]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19] وقد يجيء والمراد الفضاء الذي فيه الصدر: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] واختلف الناس في أن محل العقل هل هو القلب أو الدماغ وجمهور المتكلمين على أنه القلب، وقد شرحنا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] وقال بعضهم المواد أربعة: الصدر والقلب والفؤاد واللب فالصدر مقر الإسلام: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} [الزمر: 22] والقلب مقر الإيمان: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزِينَةٌ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] والفؤاد مقر المعرفة: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} [النجم: 11]، {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] واللب مقر التوحيد: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب} [الرعد: 19] واعلم أن القلب أول ما بعث إلى هذا العالم بعث خاليًا عن النقوش كاللوح الساذج وهو في عالم البدن كاللوح المحفوظ، ثم إنه تعالى يكتب فيه بقلم الرحمة والعظمة كل ما يتعلق بعالم العقل من نقوش الموجودات وصور الماهيات وذلك يكون كالسطر الواحد إلى آخر قيام القيامة لهذا العالم الأصغر وذلك هو الصورة المجردة والحالة المطهرة، ثم إن العقل يركب سفينة التوفيق ويلقيها في بحار أمواج المعقولات وعوالم الروحانيات فيحصل من مهاب رياح العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الإدبار أخرى، فربما وصلت سفينة النظر إلى جانب مشرق الجلال فتسطع عليه أنوار الإلهية ويتخلص العقل عن ظلمات الضلالات، وربما توغلت السفينة في جنوب الجهالات فتنكسر وتغرق فحيثما تكون السفينة في ملتطم أمواج العزة يحتاج حافظ السفينة إلى التماس الأنوار والهدايات فيقول هناك: {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى} واعلم أن العقل إذا أخذ في الترقي من سفل الإمكان إلى علو الوجوب كثر اشتغاله بمطالعة الماهيات ومقارفة المجردات والمفارقات، ومعلوم أن كل ماهية فهي إما هي معه أو هي له، فإن كانت هي معه امتلأت البصيرة من أنوار جلال العزة الإلهية فلا يبقى هناك مستطلعًا لمطالعة سائر الأنوار فيضمحل كل ما سواه من بصر وبصيرة، وإن وقعت المطالعة لما هو له حصلت هناك حالة عجيبة، وهي أنه لو وضعت كرة صافية من البلور فوقع عليها شعاع الشمس فينعكس ذلك الشعاع إلى موضع معين فذلك الموضع الذي إليه تنعكس الشعاعات يحترق فجميع الماهيات الممكنة كالبلور الصافي الموضوع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت للقلب نسبة إليها بأسرها فينعكس شعاع كبرياء الإلهية عن كل واحد منها إلى القلب فيحترق القلب، ومعلوم أنه كلما كان المحرق أكثر، كان الإحتراق أتم فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات فأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام:
«أرنا الأشياء كما هي» فلما شاهد احتراقها بأنوار الجلال قال: «لا أحصى ثناء عليك».
الفصل السابع: في بقية الأبحاث إنما قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} ولم يقل رب اشرح صدري ليظهر أن منفعة ذلك الشرح عائدة إلى موسى عليه السلام لا إلى الله، وأما كيفية شرح صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفاضلة بينه وبين شرح صدر موسى عليه السلام فنذكره إن شاء الله في تفسير قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، والله أعلم بالصواب.
المطلوب الثاني: قوله: {وَيَسّرْ لِي أَمْرِي} والمراد منه عند أهل السنة خلقها وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة، فإن قيل: كل ما أمكن من اللطف فقد فعله الله تعالى فأي فائدة في هذا السؤال، قلنا يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال ففائدة السؤال حسن فعل تلك الألطاف.
المطلوب الثالث: قوله: {واحلل عُقْدَةً مّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن النطق فضيلة عظيمة ويدل عليه وجوه:
أحدها: قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 3، 4] ولم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايرًا له، أما إذا ترك الحرف العاطف صار قوله: {عَلَّمَهُ البيان} كالتفسير لقوله: {خَلَقَ الإنسان} كأنه إنما يكون خالقًا للإنسان إذا علمه البيان، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أن ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق.
وثانيها: اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان، قال زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وقال علي: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة.
والمعنى أنا لو أزلنا الإدراك الذهني والنطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم، وقالوا: المرء بأصغريه قلبه ولسانه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «المرء مخبوء تحت لسانه» وثالثها: أن في مناظرة آدم مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال: {يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض} [البقرة: 33].
ورابعها: أن الإنسان جوهر مركب من الروح والقالب وروحه من عالم الملائكة فهو يستفيد أبدًا صور المغيبات من عالم الملائكة ثم بعد تلك الاستفادة يفيضها على عالم الأجسام وواسطته في تلك الاستفادة هي الفكر الذهني وواسطته في هذه الإفادة هي النطق اللساني فكما أن تلك الواسطة أعظم العبادات حتى قيل: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» فكذلك الواسطة في الإفادة يجب أن تكون أشرف الأعضاء فقوله: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} إشارة إلى طلب النور الواقع في الروح، وقوله: {وَيَسّرْ لِي أَمْرِي} إشارة إلى تحصيل ذلك وتسهيل ذلك التحصيل، وعند ذلك يحصل الكمال في تلك الاستفادة الروحانية فلا يبقى بعد هذا إلا المقام البياني وهو إفاضة ذلك الكمال على الغير وذلك لا يكون إلا باللسان.
فلهذا قال: {واحلل عُقْدَةً مّن لِّسَانِي}.
وخامسها: وهو أن العلم أفضل المخلوقات على ما ثبت والجود والإعطاء أفضل الطاعات، وليس في الأعضاء أفضل من اليد، فاليد لما كانت آلة في العطية الجسمانية قيل: «اليد العليا خير من اليد السفلى» فالعلم الذي هو خير من المال لما كانت آلة إعطائه اللسان وجب أن يكون أشرف الأعضاء، ولا شك أن اللسان هو الآلة في إعطاء المعارف فوجب أن يكون أشرف الأعضاء، ومن الناس من مدح الصمت لوجوه، أحدها: قوله عليه السلام: «الصمت حكمة وقليل فاعله» ويروى أن الإنسان تفكر أعضاؤه اللسان ويقلن اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.
وثانيها: أن الكلام على أربعة أقسام منه ما ضرره خالص أو راجح، ومنه ما يستوي الضرر والنفع فيه ومنه ما نفعه راجح ومنه ما هو خالص النفع، أما الذي ضرره خالص أو راجح فواجب الترك، والذي يستوي الأمران فيه فهو عيب، فبقي القسمان الأخيران وتخليصهما عن زيادة الضرر عسر، فالأولى ترك الكلام.
وثالثها: أن ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه اللسان بحق أو باطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان، والصور والآذان لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب، وإنه خفيف المؤنة سهل التحصيل بخلاف سائر المعاصي فإنه يحتاج فيها إلى مؤن كثيرة لا يتيسر تحصيلها في الأكثر فلذلك كان الأولى ترك الكلام.
ورابعها: قالوا: ترك الكلام له أربعة أسماء الصمت والسكوت والإنصات والإصاخة، فأما الصمت فهو أعمها لأنه يستعمل فيما يقوى على النطق وفيما لا يقوى عليه ولهذا يقال: مال ناطق وصامت وأما السكوت فهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والانصات سكوت مع استماع ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات قال تعالى: {فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} [الأعراف: 204] والإصاخة استماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد.
واعلم أن الصمت عدم ولا فضيلة فيه بل النطق في نفسه فضيلة والرذيلة في محاورته ولولاه لما سأل كليم الله ذلك في قوله تعالى: {واحلل عُقْدَةً مّن لِّسَانِي}.